قراءة في رواية(واختفت مهيره ) : الرحيل الى الذاكرة الاخرى ل بكر السباتين

الرابط: باصدارات ونقد (:::)
د . عاليه صالح – الاردن (:::)
تستعيد الرواية ذاكرة الفلسطينيين المهجّرين من فلسطين إلى مخيمات الشتات، كما تستعيد ذاكرة اليهود المهاجرين إلى فلسطين من أوكرانيا ليحتلوا المكان الذي أُخرج منه الفلسطينيون، يدفعهم إلى هذا العمل الحركة الصهيونية التي صهينتهم وجعلتهم ينقادون إلى تـعاليمها دون تردد أو تفكير.
تدور أحداث الرواية في مخيم فلسطيني غير مسمى في زمن يعود إلى ما بعد 1948.
ترصد الرواية الحياة في المخيم، بتفصيلاتها المختلفة من حب ومقاومة وزواج وطلاق، وشقاق ووفاق، وتشتبك مع الماضي الذي يمثل الذاكرة والهوية والوطن السليب، فعلى هدي بوصلته تعيش الحاضر وتخطط للمستقبل.
يتوزع شخوص الرواية بين الحياة والموت، وقد نجد من الأموات(الشهداء) من له أثره الكبير على الحياة، فشخصية الحوذي ظلت تحرك الأحياء إلى نهاية الرواية، الحوذي هذا الإنسان الذي عاش في يافا وتآلف مع كل أطيافها الاجتماعية والعقائدية، خبر المكان وعرف كل أسراره، واستشهد فيه، وترك لمن بعده مهمة البحث عن ابنه مهر الذي يعتقد أنه جاء إلى الحياة نتيجة زواجه من الفتاة اليهودية، التي تركته واختفت بعد أن قوي المد الصهيوني الاستعماري في يافا.
البحث عن مهر محور من محاور الرواية، ومهر قد يكون وهماً، وقد لا تكون المرأة حاملا، لكنه الوهم الذي يدفع الناس للبحث عنه، لقد بحث عنه والده في يافا، وقيل له أن أمه تزوجت رجلا آخر ورحلت إلى أوكرانيا، فحاول الرجل أن يحصل على عنوان هناك كي يكلف الباحثين للذهاب إليه.وبالفعل عندما سافر عزمي إلى أوكرانيا كان همه الأول هو _كما يكتب إلى عجاج_” ثم تذكرت فجأة بداية مجيئي إلى أوكرانيا.. حينما بحثت عن سكن قريب من المناطق التي وصفها (حاييم) للحوذي.. وكأنني ما جئت إلاّ للبحث عن (مهر)، ولمست أن مهرا  ما هو إلاّ شيء مفقود بيننا وبين اليهود.. وربما يشبه الوهم في إحدى أوجهه.. لكنني تعاملت مع الموضوع بجدية بالغة.. ثابرت بالبحث عنه.. فوجدت لقصته ملامح أوكرانية.. حينما تعرفت صدفة إلى أسرة يهودية جاورتها السكن.. فإذا بي أقطن حيا يهوديا شديد الالتصاق (بكييف).. حتى إنني مارست أحيانا ما كان يقوم به الحوذي في يافا، عندما استغل حرمة السبت عند اليهود في تلبية حاجاتهم لقاء أجر كان يتقاضاه منهم. أما أنا فكانت مساعدتي لبعضهم بإرادتي قد جاءت من قبيل العرفان بالجيرة.. الأمر الذي أتاح لي اكتشاف رحاب.. حتى جاء ذلك اليوم الذي رحل فيه بعض جيراني إلى فلسطين على اعتبار أنها أرض الميعاد.. فتركت الحي اليهودي وتيقنت بعدها أن مهرا هو الوهم بعينه الذي انبلج كبقايا نجم بريقه آفل في ليلة تعصف بها الأحلام، ورغم ذلك كنت أحيانا أتخيله حقيقة آمنت بها.. ودفعني الإحساس باتجاه أن المهر قد يكون معتقلا في مكان ما هنا في الحي اليهودي الذي أخذت تجرفه الدعاية الصهيونية إلى مطارحنا المهجورة في فلسطين.. وربما يكون قد تصهين إلى غير رجعة.. وقد تخيلت جيراني من اليهود كفقاسات البيض التي تزود المستعمرات في بلادنا بالرجال المحتلين والبنادق.. فقررت أن أرحل بعيدا حتى لاآخذ الصالح في نظري بذنب الطالح.. فانتقلت إلى السكن الجامعي الذي استقبلتك فيه ذات يوم.. لتبدأ قصتنا مع رحاب. 173-174
أما هذه الرحاب الفتاة التي تداور على حبها كل من عجاج وعزمي وارتبطت فيما بعد بعزمي، كانت المسبب للانفتاح على الذاكرة الأخرى بالإضافة إلى أسباب أخرى، فعن طريق مذكرات جدتها ليانا التي قام عزمي بترجمتها وإرسالها إلى عجاج تعرفنا على شخصيات مختلفة منها الايجابي ومنها السلبي، ومن خلالها استطاع عجاج أن ينتقي شخصية يعقوب خال رحاب ليكون وجها آخر لحوذي يافا، ولا ننسى أن يعقوب الذي عُدّ بطلا في أوكرانيا يقابله الكثير من الشخصيات الانتهازية والسلبية في عائلة رحاب، هو فرد من مجموعة وضع في مأزق وجودي اضطره للدفاع عن الجماعة، أما حوذي فلسطين فاختار طوعا أن يقدم نفسه من أجل الآخرين.
تبرز شخصية المختار أبي عزمي في الرواية حاملة للذاكرة اليافاوية وساردة لها على مسمع عجاج صديق ابنه وأستاذ المدرسة، يعمل أبو عزمي في التجارة، لديه دكان في المخيم، يمارس دور المختار فيقوم على حل المشاكل ومساعدة الناس في المخيم. أمه على قيد الحياة تعيش معه في البيت وهي امرأة طاعنة في السن تجاوزت الثمانين، ذات عزم وحنكة، بارعة في كل شيء، وقد عهدها أهل المخيم مذ طردوا من وطنهم السليب مولدة للنساء، ومغسلة للموتى من النساء، وهي مرجع زاخر بالأنساب؛ إذ لها ذاكرة عجيبة..كلمتها مسموعة، ومواقفها محفوظة، وترفض الإشكالات على الدوام، كلماتها تصيب القلب في الصميم، والكل يتذكر موقفها من الخلاف بين عائلة عزام، وأبناء عمومتهم عائلة محمود. 125-126
عجاج أستاذ المدرسة الذي ذهب للدراسة في أوكرانيا ثم عاد إلى المخيم ليعمل فيه، مثقف يحس أن عليه أن يفعل شيئا ذا قيمة من أجل شعبه؛ لذا يرى أن المسرح هو طريق لبث الوعي الجماهيري وهو مثقف متشبع بالمسرح البريختي، فيستحضر شخصية بعل في الرواية، ويعمل جاهدا لإنشاء مسرح في المخيم، وتأليف نص مسرحي يبث من خلاله الأفكار التي يؤمن بها.
وعجاج شخصية موزعة بين الحلم والواقع، الخيال والمعيش، الحقيقة والأشباح. لكنه يمارس متطلبات الحياة، أحب رحاب في أوكرانيا، وفي المخيم أحب عبير، وتزوجها وأنجب منها طفلا سماه بلالا، ليستعيد من خلال اسمه الأخ الذي راح ضحية زوجة الأب حين قتل وقُتل، وبقي ابن عم زوجة الأب (مهند) يطارد عجاج ويتوعده. وعجاج متفاعل مع سكان المخيم يساعدهم ويقدم لهم الخدمات التي يستطيعها.
عبير زوجة عجاج تنتمي إلى أسرة في المخيم، خطف الموت ابن أختها الوحيد والأثير لديها، لكن والده لم يتزوج على أختها، وشغل نفسه في العمل والمشاريع. تحب عجاج وتقوم بدور الزوجة ضمن معطيات وشروط المخيم.
عزمي ابن المختار يذهب للدراسة في أوكرانيا، ثم يتحول إلى دراسة الفنون الجميلة، ويبرز إبداعه بالمسرح. يقول عزمي”- نعم.. فأنا قد قررت ذلك؛ إذ إن المسرح متنفسي الوحيد، ولن أبخل عليه بخبراتي المتواضعة في الحياة، فمن السهل أن ترسم المعالم الإنسانية وأنت خارج من مستقع عشته إلى حد الاستفراغ. 170
وقد عُرف عني بأنني مبدع في تقمصي للشخصيات المعروفة في النطاقين المحلي والعالمي.. فكنت أتسلل.. إلى جوهر الشخصية المستهدفة حتى أبديها كما هي، وكان يدهشهم أنني أمثل أمامهم أدوارا لأناس عاديين، فأُسأل عن سرها فأقول لهم.. هذا الحاج جابر أبو العوض وسخريته المؤلمة، وهذه الحاجة أم العبد وهي في قمة الامتلاء والعنفوان، وهذه أم جورج في قمة عطائها.. وهذا الحوذي في تفانيه لأجل الوطن.. فيعجبهم ذلك مني؛ وحتى لا أعدم تلك النماذج في طرحي لها أمام جمهرة من الأصدقاء، كنت لا أشير إلى موطنها، أتركها ذات حضور إنساني دافق، إلآّ أن جمهوري من الأصدقاء كانوا على درجة من الوعي، فلم ينطلي عليهم الأمر بحيث أخذوا يتصورون حينها بأنني أعيش إرهاصات مبعثها ذاكرتي المزدحمة. 171
يتزوج عزمي من رحاب ويرزقان بمولودة يسميانها “مهرة” تعود رحاب مع عزمي إلى المخيم بعد إرجاءات عديدة، لتكون كتعويض عن مهر ابن الحوذي الذي رحلت به أمه إلى أوكرانيا كما يعتقدون. بداية عاد عزمي إلى المخيم دون رحاب فاستحثه عجاج على استعادة رحاب وابنته مهرة.. مذكرا بوجه الشبه بينه وبين الحوذي.. وكان يقول له مرغبا في استعادتهما:” فمهرة تنتمي إلى هنا ياعزمي.. إنها المسرحية بكل أبعادها.. هذه لغة ستفهمها مني!” ورغم ذلك لم يقف على تفاصيل المفاجأة.. كان يدرك عزمي بأن رحاب لن تخذله.. والمهرة التي أنجباها ستصهل حتى ينبلج الفجر على ندائها.. لذلك قال لها حينما فاجأته باتصالها:” كنت أنتظر مكالمة منك! فهل تحسبني يا عزمي كالتي هجرت زوجها الحوذي ذلك المقدام الذي يسكن ذاكرتك، لا بل وأخفت عنه مهيرته وفلذة كبده التي ولدت لديه إحساسا وإيمانا بوجودها.. وكأنك تناسيت من تكون رحاب التي أحبتك من كل قلبها وبودها لو تبذل الغالي والرخيص لأجلك! لذلك أحبت المخيم الذي صار يعني لها الشيء الكثير”.. 337
اجتماع رحاب وعزمي وعجاج ساعد على دفع فكرة إخراج المسرحية إلى حيز الوجود، فكرة عجاج التي كان يروج لها في المخيم، سانده في انجاز عمله أبا نبيه وعبير وأبناء المخيم. قاموا بتدريب الشخوص وإنشاء مسرح مكان العيادات التي دمرت جراء القصف الإسرائيلي. والمسرحية
ستروى على الركام قصة المخيم في أصدق صورها.. وستبدأ بطابور من الممثلين وهم يرتدون الزي الشعبي الفلسطيني بكل تنوعاته.. حاملين القناديل.. يطوفون بها حواري المخيم وهم يصدحون بالأغاني الشعبية، فيصل صوتهم المتباعد إلى ساحة العرض كمدخل للمسرحية.. فما أن ينفتح الزقاق المواجه للمسرح بهم حتى يشاهد الجمهور مقدمة الطابور ومكوناته البشرية تصعد إلى مسطبة خلفية مستورة خلف الركام .. كي يحتفي المكان بأصواتهم الجميلة.. ثم يصعد إلى المسطبة القريبة المهر ابن أبي العباس وهو يقوم بدور جده الحوذي، حيث سيرتدي الديماية اليافاوية والطربوش الأحمر، فيما سيقوم ممثل آخر بدور يعقوب، خال رحاب، الذي قتل في سبيل أوكرانيا، وسوف يرتدي قلنوسة ريفية وبنطالا مع مشدين متصالبين على الظهر.. ويبدأ النص بحوار طويل يجري بين الحوذي ويعقوب حول البطولة والأخلاق.. مُثل تشترك بها كل الديانات السماوية.. ثم يصعدان إلى مسطبة بعيدة.. ويتحولان إلى حكمين ناقدين لمشاهد مؤلمة ستحييها المسرحية على المصاطب فوق ركام العيادة.
المفاجأة أن المسرح انفجر أثناء العرض، وتناثرت الأشلاء بين الركام الذي أطبقت عليه المساطب، وملأ الغبار والدخان المكان وانفجر الصراخ. وأصيب الطفل الذي مثل دور مهر وهذا الطفل جاء من جمعية رعاية أسر الشهداء الفلسطينيين التابعة لجامع القسام. لكن رحاب قالت لزوجها وعيونها مغرورقة بالدموع الساخنة: سيكبر هذا الطفل ياعجاج، وسأهبه مهرة لو شاءت له الأقدار! ليبدأ معها حياة جديدة لا تغيب عنها الشمس 349
تم تبني الولد من عزمي ورحاب.
لكن المسرحية ظلت تدوي في رأس عجاج، فلمح من بعيد وجها ألفه في كوابيسه، إنه مائير يضحك ملء شدقيه بأسنان نحاسية، ضحك عجاج ساخرا صارخا في أعماقه المتأججة:” سنلتقي في يافا أيها..!!” ثم انتبه إلى صوت ابنه وهو يتدرج في المشي، تأمله بحبور وتعبطه وطار به في طرقات المخيم متباهيا، تحت الشمس قبل المغيب. 351
ظلت الرواية منفتحة على الأمل، مع أن الغلبة فيها للموت والعنف والتحدى، لكن يبقى الأمل بالأطفال جيل المستقبل.
تتوزع الرواية بين المخيم ويافا قبل الاحتلال وأكرانيا، فالمخيم هو المدن والقرى التي تم احتلالها وطرد أهلها، وحاله جدران آيلة للسقوط، حوار مكتظة تشقها مجارير المياه العادمة، ، حجرات مفتوحة على باحات عامة معدومة الخصوصية؛
وزمن المخيم  بطيء متردد ممل، ظروف تتكرر كل يوم.. والمخيم بكل سلبياته صنعه أجداد رحاب حينما احتلوا الأرض الفلسطينية، أما اللاجئون فيه فهم كالأشجار التي استحلبت سمادها من الهزيمة كي تطول عنان السماء؛ المخيم لا يشبه غجرية تمارس حريتها، بل عن شعب حبيس في بيوت الصفيح لكنه وجد ضالته بإشراقة شمس الصباح”..163
وحياة المخيم تحفل بالمتناقضات، حياة جمعت أهل الطبائع المختلفة من صفد أقصى شمال فلسطين حتى غزة جنوبا في بوتقة واحدة. وعندما يتشاجر أهل المخيم: وكان عجاج يحلو له تحليل الموقف على إنه لا يعدو عن مجرد شجار ينفّس فيه الناس عن معاناتهم حتى لا يقتلهم القهر. 205.
الرواية تطرح مجموعة من الرؤى والأفكار التي قد لا يكون وقتها مناسبا، أو قد يكون طرحها من باب تحريك المجتمع النائم:
فكرة الزواج الفردي من اليهوديات كوجه لحل القضية وانهاء المخيمات طرح تم سابقا ولكنه لن يؤثر الآن ولن يجد صدى أمام المد الأصولي العارم في العالم كلة والتزمت عند الصهاينة فالفكرة هي طرح رومنسي لن يصل إلى شيء.
عزمي يقول:
فحينما يفكر أول يهودي.. بالعودة من فلسطين المحتلة إلى وطنه أنّا كان؛ فذلك يعني بأن المخيم لا بد وينتهي، وقد تقبل فكرة التعايش التي سأبدأها مع رحاب.. بعيدا عن السياسة والمحاكمات (المماحكات) الفكرية.. هذا شيء قد تفهمه أنت دون غيرك!! 176نعم سيفهمه عجاج لأنه كما يظهر متشبع بالإغراب ولا يقرأ الواقع.
انفجار المسرح قبل نهاية الرواية وإصابة عدد من الممثلين هو جواب للطرح الذي طرحته الرواية،
الذاكرتان الجمعيتان لا يمكن أن تتحاورا، وإنما تقتل إحداهما الأخرى أو يحدث انفجار إذا تحاورتا.
معظم الشخصيات تعيش في بعد واحد وهي أسيرة الإيديولوجيا التي تعتنقها، لم تعد الحياة مناسبة لمثل هذه الشخصيات التي تخاف أن تتلوث فشئنا أم أبينا نحن ملوثون بأفكار ومعتقدات الآخرين.
تتوزع الرواية بين الحياة المعيشة والفن الذي هو قد يحمل أفكارا مجردة ليس لها تطبيق على أرض الواقع، إنه يجسد المثال، والأفكار المجردة.
فالطرح في الرواية يصلح للعمل المسرحي ولكنه لا يصلح للحياة، بموازينها المختلفة وصراعاتها، ومراكز القوى المسيطرة عليها، فموازين القوى والإيديولوجيات المسيطرة هي التي تحسم الصراع.
الشخصيات اليهودية المتصهينة والقريبة من الصهينة بعضها عاش في فلسطين في الزمن العربي وكان العرب يتقبلون الناس على اختلاف مشاربهم
والمجموعة الثانية تعيش في أوكرانيا تجذبها الصهينة إلى فلسطين نتعرف حياتها من خلال مذكرات ليانا جدة رحاب كيف عاشت في المجتمع الأوكراني وكيف تعايشت مع الفكر والظروف القاسية
ذاكرة الأموات من عرب ويهود في أماكن شتى تجعل العرب يتصالحون مع المغتصبين في الوقت الحاضر والدعوة من طرف واحد هو الطرف العربي  فهل ينفع هذا الطرح في الوقت الحاضر في هذا الزمان؟
تصدت الرواية لملامح عديدة من الشخصيات التي عاشت القضة الفلسطينية، وتفاعلت مع الأحداث السياسية
ويبقى السؤال هل يسود تيار عالمي ويطرح الأنسنة والمصالحة، أم أنها دعوة من فرد ؟
——————-
* جامعة عمان الأهلية
عمان – الأردن