خوازيق السياسه الفلسطينية (4)

الرابط : فلسطين ::
ليل المفاوضات الطويل وضياع الوطن
فراس حج محمد – فلسطين المحتله : :
كتب كبير المفاوضين الفلسطينيين الدكتور صائب عريقات كتابا بعنوان “الحياة مفاوضات” ونشره في حلقات متسلسلة في جريدة الأيام الفلسطينية، ويحاول عريقات في هذا الكتاب تقديم وجهة نظر واقعية للمفاوضات بشكل عام والمفاوضات مع “الإسرائيليين” بشكل خاص، بوصفهم طرفا قابلا للتفاوض وإمكانية الحصول منهم على شيء من تلك المطامح الفلسطينية المعلن عنها، وما درى السيد عريقات أن ما دخل إلى جوف الغول لن يرجع بمفاوضات، لاسيما وأنها مفاوضات غير متكافئة، لا يحكمها تسليم الطرف المقابل بأن لنا حقا عنده، ولذلك ظلت المفاوضات تراوح مكانها، وخسر الشعب بموجبها الكثير من حقوقه التي سلم بها القانون الدولي، وأعطته إياها الاتفاقيات الدولية، على ما في ذلك الإقرار من إجحاف إنساني بحق هذا الشعب.
لقد دخل الفلسطينيون بعملية المفاوضات أولا تحت شروط دولية مجحفة بأدنى الحقوق الواجب إقرارها، ففي عام 1991 عندما عقد مؤتمر مدريد اتفق على أن يكون المفاوض الفلسطيني ضمن الوفد الأردني، ولم يتم الاعتراف بالطرف الفلسطيني كطرف متكافئ مع الطرف “الإسرائيلي”، ودخل ضمن اتفاقية التفاوض على أن حدود عام 1967 هي ما يمكن التفاوض عليه، والمرجعية في ذلك قرارا مجلس الأمن الدولي 338 و242، ولم يتم التسليم بأحقية الطرف الفلسطيني بأن ما تبقى من فلسطين التاريخية هو حق كامل له، وبذلك بدأت عملية التفاوض على شيء غير محدد، وبإمكانية تقلص النتائج إلى الحصول على بقع جغرافية تُمارَس فيها السلطة على أجزاء متناثرة، وبالتالي الوصول إلى حالة من الكنتونات غير القابلة لإنشاء الدولة المرتقبة والموعودة.
وتبدأ عملية التفاوض كلعبة استدراج للطرف الفلسطيني من أجل أن يصل إلى قناعة أن ما يجود به المحتل خير وبركة، وبأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وتسفر أول ثمارها عن الاتفاق المرحلي عام 1993 باتفاق أوسلو، وإنشاء السلطة الفلسطينية التي لها صلاحيات محدودة وممارسة السلطة على السكان دون الأرض في اتفاق “غزة – أريحا أولا”. وبقيت القضايا الكبرى من الحدود واللاجئين والقدس والأسرى والمستوطنات دون حل، وظلت تُرَحّل إلى حين مناقشتها في مفاوضات ما عرف باتفاقيات الوضع الدائم الذي لم يأت، ولعله لن يأتي.
وبعد ذلك أخذت السلطة حسب اتفاقيات لاحقة بالوصول إلى المدن الفلسطينية، ويتم تقسيم الجغرافيا الفلسطينية في الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق (أ، ب، ج)، وتداخلت المناطق، وترسخ الواقع الكنتوني الهزيل للمناطق، وأصبح التنقل بين المدن الفلسطينية للقيادات لا يتم إلا بالتصاريح اللازمة وبحماية الأمن “الإسرائيلي”، وأدخلت الاتفاقيات التفاوضية الفلسطينيين في دور جديد، تمثل في ضرورة حماية أمن “إسرائيل” عبر التنسيق الأمني الكامل مع الاحتلال وإنشاء نقاط الارتباط العسكري لتنسيق التحرك الأمني والعسكري للفلسطينيين، فلا يحق لهم التحرك دون الإذن من قوات الاحتلال ومشاركتهم في ذلك التحرك في أي قضية أو حادث حتى وإن كان حادث سير، ووصلت الحالة إلى حالة من الوهم الكبير، فلا نحن تخلصنا من الاحتلال ولا نحن بقينا نمارس حياتنا الطبيعية ضمن أبجديات المقاومة، وأصبحت مقاومة الاحتلال محرمة دوليا وعربيا وفلسطينيا، والمنطق الذي أصبح سائدا وجود عملية سياسية وقيادة فلسطينية تطالب بالحقوق بطريقة المفاوضات، وبدأت عملية ملاحقة المقاومين، وذلك حسب الاتفاقيات الموقعة، من أجهزة المخابرات الفلسطينية والأمن الوقائي، وصارت تعدّ واجبا وطنيا بامتياز، وموضع فخر واعتزاز لتلك الأجهزة، يضاف إلى إنجازاتها الوطنية الكبرى، وتخلص الاحتلال من أهم ما كان يزعجه ويقلق راحته، وعاشت إسرائيل براحة من الضربات هنا وهناك، وقد قدمت الأجهزة الأمنية الفلسطينية الكثير من المعلومات حول تحركات المقاومين للاحتلال، وتم بفضل تلك المعلومات القبض على العديد من الخلايا الفلسطينية المسلحة والزج بأفرادها في السجون الإسرائيلية، لتتباكى السلطة بعد ذلك على الأسرى الفلسطينيين، وتعد لهم مهرجانات التضامن، وهي أول من تخلى عنهم وأسلمهم للمحتل لقمة سائغة.
لقد انشغلت السلطة الفلسطينية بإنشاء مؤسساتها لرعاية شؤون الناس، ونسيت أن هناك احتلالا ما زال يجثم على الأرض ويتمدد يوميا، وزاد وحش الاستيطان أكثر من ذي قبل في المناطق المصنفة (ج)، وأعفت القيادات الفلسطينية الاحتلال من مسؤولياته الدولية في الإنفاق على احتياجات السكان اليومية من مياه وكهرباء ورواتب في قطاعات مهمة كالتعليم والصحة، ووقعت السلطة تحت طائلة واستفزاز المساعدات الدولية التي لم تنتظم، لتدخل السلطة في مآزق مالية متكررة، ولتقع تحت الابتزاز السياسي والاقتصادي، وصار الوضع كارثيا في حالة ملتبسة، دفعت إسرائيل عام 2008 لإعلان قطاع غزة كيانا معاديا، وليس محتلا، لتبرر عملياتها ضد هذا الكيان، وليتخلصوا من الوقوع تحت مساءلة الاتفاقيات الدولية التي تحكم العلاقة بين طرفي الاحتلال، الشعب المحتل والدولة التي تحتله، ولذلك تعاملت “إسرائيل” مع هذا الكيان الذي رسخت واقعه، بكل عنف، وأمطرته بوابل من الأسلحة المحرمة دوليا.
لقد طبلت هذه القيادات للمفاوضات وهللت لها، وجندت مجموعة من المرتزقة من الكتّاب والإعلاميين لينفخوا فيها الحياة، وأدخلت الناس بوهم أن “الدولة على مرمى حجر”، وإذا بها على مرمى المدافع والسجون “الإسرائيلية” والحواجز العسكرية والاقتحامات المتكرر لمناطق (أ)، ولم تراع “إسرائيل” الاتفاقيات الموقعة، وكانت كثيرا ما تنتهكها وتلوك أوراقها وتدوسها كلما داس جندي مهوس على الزناد ليغتال القيادات الفلسطينية والأطفال والنساء في كل بقعة من أرض الدولة المرتقبة دولة عام 1967، أو خارج فلسطين، وتمنطق الاحتلال بمنطق مكافحة الإرهاب الفلسطيني الذي لا بد من دحره والقضاء عليه، تناغما مع حملات القضاء على الإرهاب دوليا، التي كانت تتزعمها أمريكا، وكانت بضاعة رائجة عندها في إعلامها والفضائيات العربية التابعة لها.
لقد تمتعت “إسرائيل” في ظل السلطة الفلسطينية التي أسقطت عنها رسميا مصطلح الوطنية، بواقع ارتاحت فيه من أعبائها السياسية والاقتصادية والأمنية، وظلت تناور في المفاوضات منذ عام 1991 وحتى الآن، وهي ليست مستعدة لأن تعطي الفلسطينيين أكثر، فقد حكمت العقلية التوراتية ذهن المفاوض “الإسرائيلي” بعدم التنازل عن منطقة “يهودا والسامرة” باعتبارها أرض الأجداد اليهود، ونحن كنا مستعدين بل أعطيناهم الحق الكامل في مناطق عام 1948، ومناطق (ج و ب) في الضفة الغربية، وأصبح الوطن في ضياع مستمر يوميا، وينأى عن أحلام المفاوض الفلسطيني الذي دخل هذه المفاوضات وهو خالي الوفاض وغير متسلح بأي شيء يقيه ضربات “الإسرائيليين” واستهزائهم به، دخل المفاوض الفلسطيني المفاوضات وفي عقليته أمر واحد فقط، وهو أن الحياة مفاوضات، ولا شيء غير المفاوضات، ولم يستفد واقعيا من تجارب إنسانية لدى الشعوب الأخرى في حماية موقفه في المفاوضات، فعمل بيديه على إضعاف نفسه، ووصوله إلى ما هو عليه الآن لا يرجو غير السلامة وطول العمر على كراسي المفاوضات في ليل ليس له آخر.
وماذا بعد؟ هل سنبقى ننتظر وهما جديدا آخر؟ هل سنصدق التحركات السياسية الفلسطينية ونثق بها؟ هل سيكون توجه القيادة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة لمنحها الدولة رقم 194، لتتمتع بصفة عضو مراقب مجديا وقد جربنا ذلك من قبل، وكان الفيتو الأمريكي لذلك الطلب بالمرصاد؟ فمتى سنظل نلهث وراء أحابيل وخداع السياسيين ونصدق تلك الألاعيب السياسية المقيتة؟ ماذا ننتظر لننقضّ على أوسلو وقيادات أوسلو وما أتوا به من خراب لروح المقاومة والإيمان بأحقية الفلسطيني بأرضه التاريخية؟ متى سنعي دورنا وأهمية وجودنا؟!