الراهب (1)

الرابط : القصة :
رواية الكاتب:إدوارد فيلبس جرجس – نيويورك :
انتهت المراسم الدينية لحفل الزواج ووضع الكاهن يديه على الفتى والفتاة  مقرباً بينهما قائلاً : ما جمعه الله لا يفرقه الإنسان ، معلنا انتهاء طقس الزواج وأن العروس والعريس اصبحا زوجين أمام الله والناس . انطلقت بعض الزغاريد وإن كانت في الحقيقة لا تشبه الزغردة في شئ مما دعى أحد المدعوين للتعليق قائلا : أهذه زغردة أم ولولة وأجابه آخرمستظرفا بأنها زغاريد على الطريقة الأمريكية وولولة على الطريقة العربية . دارت آلات التصوير بشتى أنواعها تجوب أرجاء الكنيسة لتسجل لقطات تذكارية لهذه المناسبة السعيدة بعضها تتبع العروس والبعض تتبع العريس ، كماانشغل البعض بتصوير عائلته لتبرز الصورة المبالغ الضخمة التي أنفقها على ما يرتدونه من ثياب وحلي لتكون من دواعي الفخر ، هذا إلى جانب المصور الذي استُدعى من جانب العريس ليُسجل فيلماً كاملاً لهذه المناسبة لكي يتمكن بعد ذلك أن يشاهده على جهاز الفيديو هو وعروسه ليكون ذكرى لهذا اليوم السعيد أو هذا اليوم البغيض وهذا علمه عند الله ، فإذا كان سعيداً فلا بأس ، أما إذا تغيرت مجريات الأمور بعد شهر العسل ، وصُدم في عروسه سيلعن نفسه علي ما خسره من نقود لاقتناء هذا الفيلم ، أصحاب المحال المتخصصة في تصوير هذا النوع من الأفلام يستعدون له كما لو كانوا ينتجون فيلماً سينمائياً ، حيث يتم التعاقد عليه قبلها بوقت كاف ، وقد يتطلب الأمر استدعاء العريس والعروس قبل الزفاف لمحل التصوير للموافقة على هذه الاستعدادات أو إضافة شيء جديد ، ويجتهد من يقوم بالتصوير ألا تفوته شاردة أو واردة أثناء الحفل ، يبدأ غالباً من الخارج إلى الداخل ليصاحب العروس من بدء نزولها من السيارة اللينكلن البيضاء الفارهة التي يتم التعاقد عليها خصيصا لتزيد من الأبهة ، واستكمالاً لمظاهر الترف التي يسعى البعض لإبرزاها ويعتبرها عاملاً مكملاً لشخصيته ، ومدعاة لنيل الاحترام من الجميع على حد فكره عن الإحترام وقد يكون هذا هو الواقع الذي أصبحنا نعيش فيه ، وبالرغم من أن هذه المظاهر قد تمثل زيادة في العبء على البعض وعلى ميزانيته وتكلفة فوق طاقته ، لكنها من باب التقليد واجبة وضرورية ولا تنازل عنها . تدورالآلة لتسجل موكب العرس إلي داخل الكنيسة لإتمام الطقوس الدينية للزفاف مارة على ما بداخلها من زينة وأشرطة بيضاء تحدد سير العريس وهو يتأبط ذراع عروسه ، والورود التي رُصت بكثافة في أماكن تبرز من روعة جمالها ، فامتزجت أنفاسها مع نفحات العطور الثمينة التي تضمخت بها النساء بسخاء ليموج المكان بسحر خاص ، زاد منه بعض من وميض ينطلق من الفساتين اللامعة الملتصقة على الأجساد . للأسف لم تتمكن آلة التصوير من تسجيل الهمسات التي تدور بين ثنائيات النساء اللاتي تخصصن في النميمة في كل مناسبة يدعون إليها ، والتي كان من الممكن أن تُكسب الفيلم طرافة ، فمن أين يتأتى للعروسين فرصة للإستماع إلى مثل هذه التعليقات ،  فهما لا يتوقعان أن السيدتين اللتين تنظران نحوهما وبسمة بريئة علي الشفاه يتفكهان على انف العروس الكبير الذي يشبه انف أمها ، أو أن هاتين الدميمتان بالرغم من كمية الأصباغ الهائلة التي لطخت بشرتيهما يحسدونها على هذا العريس بملامح وجهه الجميلة والتي تفوق جمالها بكثير ، وغالبا ما يكون تعليقهما ليس به أي شيء من الصحة لكنه نابع من إحساسهما بالدمامة ، وهمست العانستان بعكس ما يدور بداخلهما بأن هذا الزواج لن يستمر طويلا لأنه زواج مصلحة وانهما شخصيا قاطعتا الزواج خوفا من التردى في أمثال هذه الزيجات ، ولو كان هناك وقت لسجلت العدسة همسات وهمسات لأقنعة تخفى ما بداخل بعض البشر من شر لا ينمحي حتى لو غمر بخير العالم كله . انتقلت العدسة سريعاً لتسجل اللقطات الأخيرة للفصل الأول لهذه المناسبة وهو الخاص بالطقوس الدينية لإتمام الزواج الذي أُعلن نهايته ، بعدها انتقل العروسان إلى الممر الواقع خلف الباب لتلقى التهاني والقبلات من المدعوين قبل انصرافهم للفصل الثاني من الحفل ، وبالطبع لم توجه الدعوات لكل الحضور بالكنيسة لحضور الفصل الثاني الذي يكون في إحدى القاعات ،  لأنه غالبا لا يُدعى إليه سوى المقربين من أهل الزوج والزوجة ومن لهم مصالح مشتركة مع أهل العريس والعروس من الموسرين ، عدا هذا لا أظن أن يكون هناك مدعوون آخرون فليس من المعقول أن توجه الدعوة لمن هم اقل شأناً سواء من الناحية الاجتماعية أو المادية ، وإلا سيقال أن مستوى الحفل كان متدنيا حتى لو اُنفق فيه الملايين!! ،  المهم هو المظاهر حتى ولو كانت خادعة ، ولو استطاعت عدسة آلة التصوير أن تغوص في أعماق البعض ممن وجهت لهم الدعوة لحضور الفصل الثاني لأخرجت الحقيقة كاملة لهم ولأصحاب العرس أيضا ، لأن الشيء الوحيد الذي لا يستطيع للإنسان أن يغيره هو ما بداخله مهما حاول طمس حقيقته الخارجية بمظاهر كاذبة ، وهذا ما حاوله كثيراً ممن نزحوا إلي بلاد أخرى غير بلادهم ، بعد أن عرف المال طريقه إليهم سواء كان هذا المال آتيا من الأبواب الأمامية أو الأبواب الخلفية فهذا سيان عند البعض ، المهم أنه وصل إلى أيديهم وحصلوا به علي كل شئ ، لكن للأسف لم يتمكن هذا المال من شراء داخل جديد لهم أو أن ينسبهم إلى اصل غير الذي ورثوه عن الأجداد ، فقتلوا داخلهم ومزقوا جذورهم حتى لغتهم ابتعدوا عنها كما لو كانت كلباً أجرباً ، فتحولوا إلى مسخ يجمل نفسه من الخارج بما يستطيع أن يحققه لهم المال لكن داخلهم المقتول وجذورهم الممزقة لم تمكنهم من الالتصاق بالعالم الذي كان يحلمون الالتصاق به ، ولا حتى من العودة إلى عالمهم الذي باعوه دون أي سبب سوى الشعور بالنقص الذي دفعهم لمحاولة الانتماء لعالم غير العالم الذي ولدوا ونشأوا به ، فأصبحوا كالشجرة التي فقدت جذورها وهوت مخلفة ورائها مجرد حفرة . أصبحت مهمة العدسة سهلة بعد الاختصار في عدد المدعوين فجاست بين الأجساد شبه العارية بدون مزاحم فتنوعت اللقطات بين صدور أبت أن تخفي نفسها عن العيون ، وظهور وصل عريها إلى ما بعد الخصر ، وسيقان وأفخاذ انحسرت عنها أشباه فساتين حشرت داخلها الأجساد فكشفت عن تضاريسها المرتفعة المنخفضة ، أما الرجال من الأباء والأزواج ففي الحقيقة كانوا في حشمة بالغة وهم يرتدون حلل السهرة وأربطة العنق التي تحمل أسماء لأكبر بيوت الأزياء ، وطفح البشر على وجوههم وهم يستعرضون أجساد بناتهم وزوجاتهم العارية داخل الكنيسة ، لا يجدون في ذلك أية غضاضة فهم الآن في عرس والكنيسة في هذه المناسبات تختلف عن الكنيسة وقت الصلاة ولا غبار عليهم فلقد قتلوا داخلهم ومزقوا جذورهم !! . لم يفت العدسة أن تصافح وجه “سيسليا ” ومن الأفضل أن نقول ” سوسو ” كما يلقبونها من باب التدليل ، أما لقب فاتنة الأفراح الذي أُطلق عليها فأنها تستحقه عن جدارة بعد أن عجزت اشد النساء نميمة أن تُخرج عيباً واحداً في وجهها أو قوامها ، لا يسع كل من يراها سوى أن يردد سبحان الله فيما خلق ، قدرت في نفسها هذه النعمة التي حباها بها الخالق فتفننت كيف تبرزها خالصة لكل العيون ، خصلات الشعر التي تبدو وكأنها تاج مصنوع من الخيوط الذهبية رُفعت فوق الرأس عالياً لتكشف عن عنق لم يضارعه سوي عنق الملكة نفرتيتي الذي تباري النحاتون في تصويره ، وبين العنق والتاج الذهبي يشرق وجه لو أُطفأت الأنوار لكان كافيا لإضاءة الكهوف ، أما ما رسم علي هذا الوجه فاقرض فيه ما شئت من الأشعار، العينان خليط من العسل والكهرمان من السهل أن تنقلب نظرتهما من البراءة إلى نظرة تدير الرؤوس دون سابق إنذار ، والشفتان المكتنزتان تغريان الزاهد لامتصاص رحيقهما ، تتركهما دائماً في شبه انفراجة لتكشفا عن أسنان يخيل للناظر أنها لم تستعمل أبدا ،  وزاد طابع الحسن من جمال الذقن فاكتملت الصورة أمام رسام يعشق الجمال ليطلق ريشته لتسجل لوحته كصورة  تقدس الخالق عز وجل ، أما ما يلي العنق وحتى الأقدام فلا داعي للإسهاب في وصفه فصاحبته تؤمن بالحسد وتخشى العيون . بدت سوسو وهي واقفة داخل الكنيسة شاخصة ببصرها للأمام لاهية عن كل ما حولها كملكة من ملكات الإغريق جاءت لتقدم القرابين للآلهة . لم تشعر باقتراب صديقتها ” كريستا ” لتجذبها من ذراعها البض فأجفلت للحظة ثم استدارت لترنو ببصرها للأمام ثانية إلى حيث كانت تنظر غير عابئة بصيحاتها التي تنبهها بأن الكنيسة خوت إلا منهما . انصرف المدعوون ليلحقوا بالحفل ولم يبق أحد تقريبا ، تجاهلت سوسو صيحاتها وهمست تستفسرها عن الكاهن الذي كان يقف منفردا يحدق في سقف الكنيسة وكأنه في عالم خاص به لا يشعر بمن أو بما حوله ، التفتت صديقتها إلى حيث يتجه نظرها لترى من هو الكاهن الذي كان يقف في هذا المكان وتختصه سوسو بسؤالها ، كان هناك بعض الكهنة الذين شاركوا في إتمام مراسم الزواج لا يزالوا واقفين يتبادلون الأحاديث ، لكن الكاهن الذي تقصده سوسو كان منصرفاً عن أحاديثهم بل منصرفاً عن كل شئ منذ بداية العرس ، لم يحضر سوى لمجاملة الأباء الكهنة الذين حضروا من كنائس أخرى ، ادهش كريستا سؤالها فنظرت نحوها محدقة تستطلع ما ارتسم على وجهها قائلة :
ـ منذ متى وأنت تهتمين بمعرفة الأباء الكهنة ؟.
قالت سوسو محاولة ألا تُظهر اهتمامها حتى لا تثير فضول صديقتها :
ـ مجرد فضول فأنا أعتقد أنها المرة الأولى التي أشاهده فيها.
قالت كريستا معاتبة :
ـ معذورة .. فقدمك لم تطأ هذا المكان منذ اكثر من ستة اشهر ، فأنت لا تأتي إلا في ليالي الأعياد والمناسبات السارة ، وأما من تسألي عنه فهو الأب ” سمعان ” حضر إلى هنا منذ أربعة أشهر تقريبا ،  راهب أُنتدب من أحد أديرتنا بمصر ليكون مشرفاً على الشباب هنا .. هل تودين التعرف عليه ؟!
أجابت سوسو بأسلوب ينم على أن شيئاً بداخلها لا تريد الإفصاح عنه :
ـ ليس الآن حتى نستطيع اللحاق بمن سبقونا .
علقت كريستا مازحة  :
ـ اغلب الظن انك ستتعرفين عليه في مناسبة العيد القادم ،  أعلم أنك لا تهتمي بهذه الأمور .
كانت كريستا واهمة في اعتقادها هذه المرة ، لم تدر أو تفطن أن سوسو لم تستطع أن تنتزع عينيها عنه طوال الوقت ، لم تأبه أو تشعر بأي شيء يحدث حولها طوال مراسم اتمام الزواج سوى وجه هذا الراهب ،  حتى من حاول أن يقترب منها ليحظى ولو بمجرد ابتسامة كان لا يحظى سوى بالتجاهل حتى لا تبتعد نظراتها عن مسارها كخيط مشدود بقوة . لم تدرك سبباً لهذا الاهتمام ولم تحظ بإجابة لسؤال ظلت تردده داخل نفسها عن سره ، حتى بعد أن غادرت الكنيسة لتنطلق بسيارتها المرسيدس وبجانبها كريستا كان وجهه لا يزال منطبعا في مخيلتها ، خُيل إليها أنها تراه في أضواء السيارات القادمة في الإتجاه المعاكس ، القلنسوة السوداء التي طُرزت بمجموعة من الصلبان الصفراء كعادة الرهبان ووجهه الملائكي يسكب الوداعة من عينين لم تدنسهما شائبة ، وابتسامة غير موجهة لأحد تكشف عن نقاء نفس لم تقرب الشر أو أتاحت له الفرصة للإقتراب منها ، لم يكن في وجهه شيء غريب بالنسبة لها لكنها شعرت بأنها مشدودة ومنجذبة إليه منذ أن وقعت عيناها عليه ، شيء ما يدعوها لأن تحتفظ بكل ملامحه ليعشش كطائر جميل داخل خيالها .
—————
وإلى اللقاء مع الحلقة التالية ؛
حقوق الطبع والنشر محفوظة للمؤلف ؛
edwardgirges@yahoo.com