آهات تنسكب من فم الغربة والحنين من خلال (مرافىء الحب السبعه) للدكتور علي القاسمي

الرابط : فن وثقافة :
نجاة الزباير* المغرب
نبض البداية:
د.علي القاسمي؛ هذا الكاتب المسكون بأسرار اللغة، المخاصر لأساطيرها، والراقص فوق عتباتها برشاقة تغري بالكثير من التعمق في معالمها.
نعم؛ هذا الحامل لأسفار الحرف من بلاد الرافدين، والذي صنف من خلاله كونه. فهو الناقد واللغوي والروائي؛ الذي أثرى الساحة الثقافية العربية، بالكثير من المؤلفات الباذخة.
سنقف عند بعض سمات الغربة والعشق، من خلال روايته التي صدرت عن المركز الثقافي العربي في طبعتها الأولى 2012 .
تموجات الحكاية:
ما أحلى البدايات؛ حين تمطر حسا فنيا عاليا كما قام بذلك الروائي الكبير علي القاسمي،وهو يضع أولى خطوات ركبنا أمام دياره الروائية، لنشرب قهوة أحداثها.
حيث بدأ بخطاب موجه نحو حبيبته، والتي يتحاور معها فوق أرض الرواية، خلال الرحلة كلها التي تتداخل فيها أنواع الخطاب، والتي تتنقل بسرعة من خطاب ذاتي محض، إلى إسقاط غيري يمثله د سليم الهاشمي.فبين الأنا و الآخر يمر موكب الحكي في انثيالاته الساحرة. حيث يتنامى المنفى الداخلي داخل الرواية، ليعانق انشطار الإنسان بين الرغبات التي يريدها، والقدر الذي سار في اتجاه آخر حرمه منها.
إنها أثيرة، تلك التي مشت بخفين من ضوء بين دفتين، حيث عانقنا التوجع والبكاء، وحمى أذبلت يديه وهو يعدو بحثا عنها، منتظرا إياها قرب رصيف كل عمر يحط فيه رحاله. لكنه لا يجد غير طيفها ينام فوق كتف سهاده. ويفرش آلامه.” لكن طيفك يا أثيرة، هو الذي أطل علي في غير الأوان، ليسخر من محاولاتي البائسة للنسيان، ويريق شرايين الذكرى في فضاء حجرتي، ويؤثث سريري بالحمى وأوجاع الذكريات”. ص: 7
رغم أن عنترة يرى غير ما رآه الروائي في زيارة طيف محبوبته، حيث يقول:
إنَّ طَيْفَ الخيالِ يا عبْلَ يَشفي وَيُداوَى بهِ فؤادي الكئيبُ
إن هذه الفقرة الاستهلالية كانت نقطة البداية لفتح آليات االسرد، والتي تعانق الحنين والعشق والغربة في أكبر تجلياتها.
فنجان الغربة المليء بالدم والتراب:
تتحدث الرواية لغة الغربة بحس فني عال، فهل تراها هي البوصلة الحقيقية التي تقود حواس القارىء في مرافئها ؟
فالعراق؛ هو الجرح الحي الذي ما يزال ينزف دما، هذا البلد الذي عانقنا حضارته وشعراءه ومفكريه، الذين صنعوا لنا تاريخا تفتخر به الأمة العربية، يكفي أن يكون بلد المتنبي الخالد، والذي ما تزال توقد نار المعرفة حول إرثه الشعري.
كنت أقف دوما عند قوله وهو يتلوى من سقم الغربة:
أَنَا فِي أُمَّةٍ تَـدارَكَهَا اُلَّـ لهُ غَرِيبٌ كَصَالِحٍ فِي ثَـمُودِ
وها هو الكاتب يحمل الغربة فوق كتفيه؛ صخرة سيزيفية عندما غادر وطنه، فذكرنا بقضية الاغتراب التي كثيرا ما تناولها المثقف العربي، والتي تتصادى مع الأوضاع السياسية والاجتماعية التي يعيشها الوطن الكبير. هذه الغربة التي يتعالق بين أسلاكها التمرد، والبحث عن الحرية في بلد لا ثقافة للحرية فيه، ” إن ثقافة الحرية لم تتجذر في نفوسنا، لم تعد جزءا من منظومتنا الفكرية.” يقول .ص:12
وكلما أدمن الشراب من كأس البعد، نراه يتمزق أفقه انتظارا لعناق وطنه، يقول:” إنك لا تدري، يا أبي، أنني منذ ذلك الفجر الذي اخترت فيه الرحيل، والشمس تشرق كل صباح في عيني من العراق، وتغيب كل أصيل في العراق، وأن ساعتي أدمنت توقيت بغداد، أينما ذهبت، لأن هذه الساعة التي أهديتها إلي ذات يوم، تعمل بالنبض، نبض قلبي الذي تجسه في معصمي. وقلبي ينبض بحب العراق. ص 93.
فما أقسى الغربة الخارجية، التي تتحول لليل طويل لا ينيرها قمر الحب، فتمتزج بغربة داخلية كلها سقم ونحول!!، “عندما التقيت بك يا أثيرة، كان الموت يتربص بي عند كل منعطف، يختبئ خلف الأشجار ووراء الآكام، ويطل بوجهه البشع من بين الأزهار الذابلة، عندما التقيت بك كان الخوف قد طلا وجهي بالشحوب، وأصاب جسمي بالنحول، ورسم التجاعيد على قسماتي”ص:84
لقد قدم الروائي سيرة ذاتية، تعاملت مع الواقع والأشياء والأحداث التي جعلته تائها، وسط عذابات رسمته لوحة بألوان متعددة، وكأنها رسم سريالي تتداخل فيه الدلالات، لتمنحنا ذاتا قلقة مفعمة بالهواجس. فسافر لأمكنة عديدة وكأنه جلجاميش الذي يبحث عن العشبة السرية للحياة.
” يا وطني المستحيل!إني أفتش عنك منذ سنين، بين ركام الذكريات، وأبحث عنك في فضاءات الأوجاع، والأحزان، والفجائع، والمذابح، والمقابر، الجماعية، أتسقط أخبارك في النسيم القادم من الشرق، لعلي أشم روائحك، يا وطني الجريح، فلا يصلني إلا صدى أنينك …يا وطني الذبيح، أتسمعني يا وطني البعيد”ص: 132.
هذا الوطن المستحيل؛ الذبيح البعيد، هو الذي صنع تاريخ هذه الرواية التي عرت عن وجه آخر للإنسان العربي، الذي يعيش الإرهاب، والعنف والتمرد والثورات، فكانت كتابة فنية عانقت قضايا متعددة.
منها ما هو سياسي محض، وما هو خاص بتلاقح الثقافات مع الغرب، ومنها ما هو اجتماعي.
فالحالة النفسية حولت الكتابة لدى الكاتب لمعول يحاول ردم الغربة، واكتشاف خبايا اللغة، والتحرك فوق دواليبها، حيث تجرد من ذاته التي تذوب بين المعاني والدلالات والصور، والتي صنعت من وحدته القاسية قلقا وجوديا. تنقل بنا من خلاله عبر حكايا، وومضات ثقافية مستوحاة من حمولته الثقافية، التي وظفها بإتقان كبير.
هكذا رمت شبكة السرد في هذه الرواية بظلالها على الهموم الكونية، وتمزق الإنسان العربي في عوالم هذا الوجود، خاصة ما يعيشه الفلسطيني في الأرض المحتلة. فكانت مذبحة صبرا وشاتلا نموذجا.وغيرها من المآسي التي فرشت حصيرها الدموي في هذه الرواية.
سِفر من غربة ثانية:
لقد كان الكاتب رحالة عايشنا في روايته، تقاطيع عمره الذي ولى، فإذا كان المنفى الاختياري عن تراب الوطن قد شكل قصيدة غربةٍ شائكة سكنت وجدانه، ولازمته ظلا لا يفارقه. فإن لغياب أمه حكايا شهرزادية كلها أنين خافت. لم يخفف وطأة حرمانه من رؤيتها غيرُ شال تلازمُ رائحته قلبه، “إنه الشال، شال أمي. إنه شال مسحور مثل مصباح سحري ما إن يلامسَ عيني حتى يهبهما قوة إبصار خارقة، تخترق الحجب وتطوي المسافات لأرى ما لا يمكن أن يُرى بالعين المجردة” ص: 83
هذا الرمز الذي يبدو بسيطا، كان عميقا في تناول جانب نفسي مهم، فيها تتأرجح ذكريات طفولية جميلة، وتتراقص لعبة الحياة التي حرمته من حضن الأمان، لنسج عرى علاقات متعددة ضاع في ملامحها، وهو يتنقل من بلد لبلد ليس معه غيرُ رغيف الحلم، بالعودة للقرية الصغيرة التي سكنت وجدانه، وانسابت مع دمه، لتنبتَ نخلةً عملاقةً يراها أنى حل وارتحل.
فقد تمازج حب الأم والوطن ، ليصنعا معا من الغياب مأساة كلها تيه وضياع روحي، لا يستيقظ من سباته الدامي إلا بالكتابة.
فما أقساها من غربة مفعمة بالحسرات، نثرت أشلاءه في كل الزوايا!.
عشق يجر عربة القلب نحو المستحيل:
سطرت الرواية أسماء نسائية أشعلت الحرائق في درب الكاتب، في مراحل عمره وانشغالاته الوظيفية، فبين موت الحبيبة وضياعها تمزقت نفسه؛ وانكسرت مرآة روحه شظايا لا تلملمها غير الحروف.
“بكيت من أجلك كثيرا..هل رأيتِ قتيلا بكى من حب قاتله قبلي” يقول في ص: 42
ليذكرنا بعشاق أمطرت دموعهم من سماوات الشعر العربي، لتبتل بها نفوسنا العطشى لمثل ذلك الحب السائر فوق الجمر. مستعيرا قول جميل بن معمر:
خليلي فيما عشتما هل رأيتما قتيلا بكى من حب قاتله قبلي
ونحن نقول نعم؛ لقد جاء واحد مثلك، لكن بعدك…
هذه المرأة التي بحبر حبها كتب د. علي القاسمي أروع كتاباته، والتي تستقي من بئر الشوق والعتاب، والأنين والقلب الجريح مدادها، لتكون قبلة روحه المثلى. فهي الحلم الوحيد في مداره النفسي، الذي يلغي كل الأزمنة، ليصبح الزمن الكرونولوجي مجرد وهم، “عندما أفكر فيك أو أحلم بك أو أتخيلك،يا أثيرة، لا ألحظ وجودا للزمن، فأنت في ذاكرتي نابضةٌ بالحياة، ساطعة، متألقة، لم ينل الزمن من توهجك شيئا، وأنت مستقرة بعناد في أقصى مكامن روحي، لم تغادريها لحظة….فكيف إذًا أُدْرِك ُوجودا فعليا لامتداد الزمن،…وما الزمن الذي نتعامل به إلا وهم من أوهامنا” .
وكأنه يقول مع الشاعر فاروق جويدة
عيناك عندي بالزمانِ
وقد غدوتُ .. بلا زمنْ
فيا لهذا التمرد الذي جعل من حبه آلة يقيس بها زمنه النفسي، حيث يقرأ ذاته ولا يجد غير طيفها متخفيا في دمه، يهرب منها إليها، ويعيش من أجل ذكراها ..ويا لها من سيدة نامت في عينيه ولم تستيقظ للرحيل منهما، ليعيش ببقاياها باكيا، شاكيا فراقه وبعده عنها.
هكذا توحد حب الوطن والمرأة في قلب الكاتب، الذي أنهكه الشوق، والانفعالات التي تصاعدت وتيرتها كلما غاص الراوي في غربته واغترابه.
إن سمفونية الحب الخالد في هذه الرواية، تشد القارىء نحو مرافىء كونية، تجعلنا نسأل:
هل ما يزال مثل هذا الحب يدق أبواب الحياة؟
ضوء من قنديل النهاية:
إن الوعي بدلالات المكان والغربة المتعلقة به، قد أفرز مجموعة من التيمات المكتوبة بلغة التميز في هذا الفضاء السردي.الذي سافر بنا في أفق تاريخي وإنساني مفعم بالإثارة والدهشة.
لتبقى هذه الرواية، سجلا لألم الإنسان المحفور في أعماق الوطن العربي، من خلال رؤى جمعت كل خيوط التفرد، والتي يمر فيها الحلم عابر سبيل. لتخلد في صفحات تاريخ الرواية العربية، اسما كبيرا هو د. علي القاسمي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* شاعرة وناقدة وصحفية من المغرب