ذهاب الجعل الى بيته \ 3 الاخيرة

الرابط : القصة :
فرج ياسين – العراق :
داهم المكان رجل أفسد خلوة الليل بضجة حضوره رافعا عقيرته ، قبل وصوله بأصوات يبدو أن القوم يتعاملون معها كما لو أنها هويته ، لأن حمادا نهض من مجلسه وراء الوجاق وأطلق تحية غريبة فهمت على أنها إشارة التعرف الفاهقة بالزهو والاعتداد . تهامسوا مصرحين ـ لمجرد استهجانهم ذلك الحضور الصاعق ـ بفرحهم الذي ليس له حدود . وامتد إلى مسامعي همسهم الجهير ، خشيت من أنني لم أكن قد سمعت بشكل صحيح ، إذ وجدتهم يطلقون عليه لقب الغجري . وقبل أن يتأتى لي سماع المزيد كانت صفعة الضوء الكثيف المحكم التسديد ، قد سقطت على وجهي ، أعمشت عيني فاتقيتها بظاهر كفي صاح الرجل وهو يطلق قذائف مصباحه اليدوي إلى السيارة الجاثمة في مكانها منذ الأصيل : الآن عرفت سبب وجود سيارة في هذه القرية التي يسكنها الأجداد ! وشاع روح مختلف في نفسي ، لكن الجميع ضحكوا مبالغين في إصدار قهقهات بدا وكأنها تطلق الآن تغطية لدين في ذمتهم قديم ، وجدوا الوقت المناسب لسداده الآن . لم ينتظر الرجل كثيرا قبل أن يتقدم مني ويمد لي يده قائلا : أهلا بك يا سيد إن طعم المدينة يفوح في الجوار . فنهضت مرحبا به قائلا : تسعدني رؤيتك في قرية الأجداد هذه ، وأدرك بسرعة حقيقة إعجابي بهذه الكلمة كأنه لم يتعمد إعدادها منذ سماعه وهو في بيته بأن ضيفا غريبا يحل في بيت حماد العوسج هذه الليلة.
كان الرجل طويلا شاحبا ربما لو كان أقل مرحا لبدا في سن الخامسة والستين يضع فوق رأسه كوفية من دون عقال ويرتدي دشداشة بيضاء ونعلين مشبكين بسيور نظيفة جعل بقامته المعتدلة ولحيته الحليقة وطريقة تحدثه الواثق المراوغ الجريء يذكرني بالباعة المتجولين ، بفارق أن للغجري وجها بدا وكأن لحيته نتفت قسرا للتو ، وهو ما يزال يماري نظرات الآخرين لاحتمال عارضيه المستعارين ، أو هكذا أردت رؤيته . ربما لأن روحي لا تريد استقبال شكل مختلف في هذا المكان ! قال الغجري وهو يحشر جسده حشرا بيني وبين هراط واضعا بندقية الصيد التي كان يحملها لصق جدار الكوخ : إنني مدني أيضا وخراء على هذه القرى . لكن حمادا زجره جهرا وطعن هراط خاصرة الغجري بمرفقه واتجه بكلامه إلي : هذا صحيح إنه رسولنا إلى المدن الأخرى لقد مارس مختلف الأعمال في طول البلد وعرضه ، وكان يعود محملا بقصص كثيرة ، هل تود سماع بعضها ؟ أجاب الغجري : لقد كانت القصص مخصصة لكم وليس لضيف مدني . لكنني قلت له وقد بدأت أشعر بنشوة سابغة أوثقت مشاعري بكلمات الغجري :ـ لكني أرغب مثل الآخرين بسماع هذه القصص . فرد الغجري : إنها ليست قصصا أيها السيد بل طرف أتعمد نقلها إلى هنا . ثم سألته : ما قصة تلقيبك بالغجري ؟ فقال : لأنني خرجت من القرية وأنا صغير كنت في سن الحادية عشرة يوم اصطحبني أبي إلى المدينة ، وأمام حانوت بقال رأيت السمسمية أول مرة في حياتي ـ  كانت موضوعة في صينية تستند على منضدة واطئة يحوم حولها الذباب ـ  فتعلقت بأكمام والدي ، وتوسلت به أن يشتري لي واحدة منها ، فأعطاني أبي قطعة نقد حمراء من فئة عشرة فلوس وبعد دقائق كنت ألوث أصابعي ونصف وجهي بدبسها الداكن الشديد اللزوجة .
بعد عامين كنت أقف أمام الصينية ذاتها ، بملابس ملوثة بالطين والجص وغبار اللبن والطابوق لأشتري السمسمية استمر ذلك في كل مساء . هذا قبل أن أذهب إلى مدن أخرى ، وأتذوق أصنافا جديدة ليس من السمسمية فحسب ، بل من كل أصناف الحلويات المعروفة في البلد من الموصل إلى البصرة لكن لقب الغجري لم يلصق بي حقا إلا بعد بضع سنين ، يوم عدت مرة كعادتي بعد غياب طال إلى القرية ، فرأيت خيام الغجر ترفع أعمدتها وأعلامها بالقرب من كوخ الشيخ عفتان . وفي المساء كنت نجما حقيقيا في سماء الاحتفال . لقد أعجب الغجر بطريقة ارتدائي للملابس الإفرنجية وبطريقة تحدثي وأوجسوا خيفة من احتمال تسفيه أساليبهم وكشف خططهم ، لكن كل شيء مر كما لو أن الشيطان هو الذي يرعى أبواب الجنة ، إذ غزت قلبي صبية غجرية لا تزيد على السادسة عشرة ، لم تكن ترقص أو تغني بل تضرب على الطبلة وراء عازف الربابة ، كأنه حارسها ، طفقت طريقة تخفيها تشيع طعما محرما عصيا في صبوتي المتقدة . فقررت الرحيل معهم في اليوم التالي ، ولم أعد إلى القرية إلا بعد عامين . ولما نوديت بالغجري أول مرة كنت قد نسيت تلك الصبية ! لأنني ـ في الحقيقة ـ عدت إلى عملي في المدينة بعد ستة أيام فقط ، حين لم يعد وجودي مرغوبا فيه عند أفراد القرى ، التي نزل عندها الغجر . ثم أن الفتاة لم تكن قد جادت عليَّ بابتسامة متكلفة واحدة لكنني أصبحت غجريا منذ ذلك اليوم . سألته : لكنك عدت أخيراً ؟
أجاب الغجري : كنت أعود دائما لأفرغ صرتي أعزز المحاولة التي بدأتها منذ نصف قرن ، ولم أفلح قيد أنملة . أريد أن أدس إصبع السمسمية في أفواههم منتظرا أن تقتادهم الشهوة للبحث عن الصينية المملوءة بأصابع السمسمية . نصف قرن وأنا أحاول جعلهم يجربون الخروج ، يخرجون هم بأنفسهم لأنهم لم يعرفوا سوى شكل واحد بائس ، وهو أن تأتي الحكومة وتقتادهم كالعجول ، لأي سبب . كنت بينهم مصادفة عندما جاء أربعة من الأفندية في خريف عام 1957 لأجل التعداد السكاني بذلت الكثير من الجهد من أجل إقناع الشيخ عفتان ، بأن تلك الأوراق والأغلفة والحقائب والأقلام ليست حرابا ولا رصاصا ولما شرع الرجال بالتسجيل في فجر اليوم التالي لاحظوا أن جميع شبان القرية الذين هم في سن الجندية قد هربوا من قبل ذويهم بعيدا في الجبال . الآن ما يزالون يهربون ، أولئك الشبان كبروا ولكنهم ما برحوا يذرعون الدروب الطويلة المغبرة لرحلة الهروب ، يفاخرون بذلك ويتحدثون عن دوار الرحلة وهمومها ، لكنهم يعدونها بطولات خارقة ، ثم يعملون على وصلها ـ لا تدري كيف ـ بمفاخر أجدادهم ، ومآثر أسلافهم المطمورين .
مال الشيخ عفتان إلى من يليه من القوم سائلا إياه بصوت واهن نحيف : من هذا الذي يتحدث ؟ رد الرجل : إنه الغجري . فرفع كفه وجعلها ترف بحركة لولبية قائلا بسخرية : هاي هاي هاي !
أطلق الغجري ضحكة مجلجلة ثم قال : إنني لا أساوي عند الشيخ عفتان جناح جرادة . أما الرجال لا سيما من هم في سن الشباب ، فإنهم يبطنون لي إعجابا لا يصرحون به إلا في الخلوات . لقد بدأوا يتشوقون إلى التعرف على إصبع السمسمية وهم يتخيلون مشهدا له يحلق في أفق أحلامهم ، لذلك ، فإنني أوشك على إنجاب الأبناء الذين خرجت كل هذا الزمن الطويل لأجل إنجابهم . وما بقي عليَّ إلا أن أعمل على نقل ذلك الأفق إلى مرمى أبصارهم . هل تراني إن كففت عن معاودة الخروج أنني سأمكث طويلا ؟ لا ، إن أرضة الموت تجد مكانا آمنا تستوطن فيه لذلك فإنها ستعمل بجد حتى تأتي على جسدي العجوز .
وقدمت القهوة للجميع ، ثم عوتب الغجري لأنه لم يشارك القوم العشاء فقال : إنه حمل بندقيته وذهب إلى الغابة عند الشاطئ ثم تأخر في العودة لأنه أراد أن يعرف متى يخرج الدعلج من جحره ليرد الماء ، لكن الرجال أوضحوا له بأن الدعلج لا يخرج إلا في آخر الليل ! واحتدم نقاش طويل غادر الدعلج وموعد خروجه إلى أحداث ومشاهد ورجال وأسماء وزيجات وثارات وأماكن وعقاب ، وحروب وغزوات وأحلام وبطولات وشتائم … وذبلت ورقة الليل ، تقاذفتها ركلات الدقائق السابحة في حديث الرجال المتدفق مثل ينبوع .
في حجرة نومها ، فيما كان ينقدح في دمه أريج عطورها المستوردة ، راقبها وهي تنهض من الفراش ، وتغيب قليلا في ضجيج تدفق مستمر لصنبور الماء في الحمام ، ثم قرقعة وهسيس أكياس بلاستيكية في المطبخ . أخيرا أحضرت قدح الشاي الذي يروق له شربه قبل الفطور ، منذ أن تعرف على الأستاذ باقر الأميري فوجد أن بعض عاداته قد انسلت إلى برنامجه اليومي .
ولم تجد ملاحظاتها وهي تؤكد على الدوام بأنه لم يكتسب في الحقيقة من باقر الأميري إلا عادات رجل مدمن على التدخين ، لكنه أكد لها أن الأمر لم يكن كذلك ، لأنه يدرك أنها ستسعى به إلى أفكارها العجيبة الأخرى ، محاولة إقحام اسم فؤاد العطار مشيرة إلى أنه سيقول هذا صحيح لأنك بهذه الطريقة تحاول إقصاء الشهوة الحارقة إلى التدخين . وهكذا تفعل بحياتك كلها !
أما الأستاذ باقر الأميري فإنه سيجد ذلك طبيعيا ، لأنه بدافع من احتقار هذه النظرة كتب بحوثه التي أعجب الدكتور خليل بها .
وعلى مائدة الصباح قالت ، إن جانبا من قلبي أقسم على الطلاق منك مع أنني لا أريد التفريط بسريرنا المشترك ، لأن القسم المتبقي من قلبي يفيض كثيرا على متطلبات الشيخوخة وكما لو أنه في حلم رأى فؤاد العطار يدخل من باب المطبخ ، بقامته الباسقة ويحتضن كتفيها ، ثم يفلت ابتسامة ساخرة ينفثها في وجهه .
أدركتني جلبة إيقاظ الشيخ عفتان الذي انزلق على الوسائد المحيطة به وتكوم مقرفصا حشو دشداشته الفضفاضة ، نصف نائم ، نصف حي ، نصف موجود . واستنفر الفتيان اللذان أحضراه من البيت ، ثم نهض الرجال كلهم شرعوا يدورون حول مربع الفراش بحثا عن نعالهم وتعاظم افتتاني بالكلمات الناعمة الزاخرة بالود ، وأنا أتلقى فوحها من الرجال ، يصافحونني وينسلون واحدا واحدا حتى غدوت لا أرى إلا فضاء مربعا مجلوا بضوء الفانوس متشبثا ببصمات أجسادهم الراحلة ، وما تبقى معي سوى حماد وهراط والغجري . كان برع والفتية الرعاة الذين أجروا الخدمات السريعة للجماعة قد انصرفوا أيضا . أشار هراط لحماد بأن يذهب لجلب الفراش كي أتخير مكانا لنومي وطلب هراط من الغجري أن ينصرفا معا لكن الغجري قال أنه سيمكث قليلا فراقت الفكرة لي ، في حين هز هراط رأسه برماً وودع معلنا رغبته في الحضور صباحا فتفجر الغجري قائلا : دعه يذهب إلى زريبة التيس . ثم بصوت مرتفع تعمد أن يصل إلى مسامع هراط : اذهب إلى قماط الزوجية كما كنت تفعل منذ رسو سفينة نوح على الجودي ، لكن هراط كان قد ابتعد . وما لبث النباح أن انفجر من الجهات الأربع مستقبلا الرجال العائدين . كان على الكلاب أن تتأكد وسط الظلمة من أن الشبح القادم لم يكن ذئبا . همس الغجري في أذني : أن هراطا أكثر الجماعة ألفة وتفهما . وأنه لا يستطيع إخفاء مشاعره نحوه ، فاتفقت معه معترفا بأن هراطا أسهم في تقريب الأجواء إلي مذيبا إحراج غربتي.
وخرَّ نجمٌ هاويا بشواظه المنطفيء ، فوق الأكواخ المسورة بالظلام ثم عوى خمسون من بنات آوى المسعورات تعالت أصواتها قادمة من غابة الشاطئ ، واستيقظ ديك كهل على بريق النجم المنفلت في الفضاء ، فأطلق صيحة خاطئة ما برحت أن أعقبت ندما هشا في نفسه تمثل في انخذال جملتي الأخيرة ، عددٌ من الديكة ممن لم تتح لهم لواعجهم فرصة النوم ، قلدوه بلهجة أكثر اندفاعاً وسوقية ، لهجة ديكة شابة !
سكت النباح بينما بقيت أسمع هرير الكلاب القريبة ، لا سيما تلك التي ما تزال تقعي عند وصيد الزريبة المتاخمة للكوخ ، ثم عاد حماد ببساط من اللباد وبطانية مشيعا بحلقة طنانة من البعوض ، وضع الفراش فوق البساط ، ثم تخير وسادة مما كان في المكان . لم يبدُ على الغجري أنه سيودع راحلا حين وقف حماد خلف الفانوس ، كأنه بانتظار إشارة الإذن بالمغادرة إلى بيته ، لكن الغجري قال له وهو يرخي كوفيته ويدعها تتدلى على منكبيه : أن عليه الذهاب إلى فراشه لأنه يريد أن يجد طريقة لهدهدتي حتى أخلد إلى النوم ، فاضطرم إعجابي بطريقة تحدث الغجري ، اكتشفت ذلك من قياس رغبتي الآخذة بالتصاعد من أجل استبقائه ، وتمضية ما تبقى من الوقت معه . وما حال شيء دون تفهم حماد لكل ذلك ، فانفلت راجعا تحيق بجسده أفواج البعوض القادمة من المستنقعات النهرية تحت آجام القصب والحلفاء وأشنات الشواطئ التي سحبتها النساء من النهر ، بأقدامهن الحافية وهن يملأن براميل الماء , يضعنها فوق الحمير الموشومة الأوراك بالحناء . وتخيلت حمادا وهو يذهب ليضطجع مع واحدة منهن ، لأن بريق السيارة تحت ضوء النجوم سوف يربط مشاعره بجسد آخر ، أكثر رواءً وفتنة كان قد حرمه حياته كلها.
رآها على حافة ساقية ، في إحدى أيام الرحلة المبكرة ، حين لم يغادر بعد عالم القرى المضيئة ، وبساتين الفاكهة ومزارع الخضار . لقد ندم على قضائه الليلة في تلك القرية ، فقرر عدم التوقف في أي واحدة من تلك القرى . مضى النهار بطوله قبل أن يصمم على المبيت على شاطئ حصوي ، ينحدر مجتازا جرفا غرينياً يميل لونه إلى الحمرة فرأى المرأة . كانت تقف وتنظر وصول السيارة . لما أطل بنظرته الزرقاء خلف زجاج نظارته . تأكد من أنها لم تكن إلا فتاة في مقتبل العمر . ما عتم أن وجد في استدعاء كل ملاحظاته ، المنقولة عن الآخرين لا سيما أصدقائه ، لكي يكذب نظرته الأولى وقد جندلت مشاعره ، في غلالة من الخضرة المنقوعة بالضوء . بدت أكثر طولا من أية امرأة عرفها عدا أنه ليس أكثر من الطول الموضوعي ، الذي كان سيليق بامرأة فاتنة . ليس في وجهها البيضوي الأغر سوى حمرة الدم , أو أنه لم ير غير ذلك وهي تتحدث معه ـ ليس بفوح كلماتها بل باندثار غرائز ما زالت مجامرها تتقد ـ وأيقن أنه انتظر خمسة وعشرين عاما لكي يدرك أن ما ظنه قناعة مقدسة بامرأة معينة ، كان وهما لأن التي رآها على ظهر السفينة بعرجها الخفيف الآسر وتاريخ تعليمها الهجين ، وطريقتها في وأد عجرفتها كلما اكتشف فوران حنين روحه ـ التي أضاعت طوطمها إلى الغزو ، ومشاهدة بحر الدم من جديد ، لأنها تلقت دروسا دموية في فن الخداع عن طرق البهرجة والزواق وليس غير ذلك ـ لم تكن إلا طيفا مروضا لفكرة الزوجة وليست امرأة من لحم ودم .
كانت الفتاة الشابة مثل حورية خارجة من الماء ، مغتسلة بالشمس ، من قلح الزبد المتخثر على الشواطئ . أنكرت أن تكون قد رأت في حياتها مثل ذلك المكان العجيب الذي سألها عنه . وبإصبع واحدة لمح خضابه في ضوء الشمس الغاربة ، رفعت لفاعها وأخفت نصف وجهها الأسفل مستغرقة أرنبة أنفها الموشح بألوان الضوء المنعسة على الخضرة الملتفة حولهما قالت : إنها لم تسمع باسم ذلك الرجل ولا بموضوع ذلك المكان ، وأن من الخير له أن يسأل عنه الموتى .
في أفق النصف المختفي وراء الكوخ من السماء . جعل القمر الطفل يمد لسانه فوق لفاع الليل . ولم اصدق أنني سأفقد مرأى ذلك العدد الهائل من النجوم ، إذ كنت أظن المجرة المرئية صغرى بنات السماء ، لا يمكن أن تمتلك إلا قليلا مكن الحلي ، والكثير من الأسرار كما يليق بمراهقة .
كان الليل قد انتصف منذ زمن طويل حين فجر الغجري رغبته قائلا أنه يود اصطحابي إلى الصيد عند الأماكن الممتدة على طول الشاطئ لغابة الغرب والطرفاء ، فألفيتني متوقفا مع رغبتي في أن أظل وحيدا ، حتى لو كان الغجري هو الذي يقتاد خطواتي .
أصغينا إلى هبوب نسمات الليل الندية القادمة من الشاطئ ، والتقط الغجري بندقيته المسجاة على الأرض من مكانها حيث كنا نجلس جنبا إلى جنب . ومضينا نخطر بين الأكواخ المتباعدة ، حتى خلصنا إلى أرض فسيحة تحززها دروب بيض منخفضة قليلا . قال الغجري : علينا ركوب أحد هذه الطرق الذاهبة شرقا باتجاه الشاطئ , وإذا مر من بين قدميك حيوان من حيوانات الأحراج الصغار ؛ ورل أو رضاع معز أو يربوع فلا تخش شيئا ثم وصلنا إلى منخفض واسع ، بينما جعلت أغصان ناعمة تمس ركبنا على جانبي الطريق ، قال الغجري : هذه سيحة السوس ، هل سمعت باسم هذا النبات ؟ أجبت : نعم . فنقل بندقيته من يد إلى يد قائلا : إذا خشخشت الشجيرات بين قدميك ، فاعلم أنها الأفعى ، إن بإمكان رجل مثلي أن يتعرف على موسيقى مرورها الكئيب ! وتخيلت موكباً أفعوانياً ، ثم حمدت للغجري كونه أشار بارتداء حذائي قبل مغادرتنا الكوخ .
أقبلت نسمة ناعمة من النهر ، فداعبت وجهي ونحري ، مدغدغة صدري عبر جيب القميص المفتوح واندفعت أظلف محاذيا خطى الغجري الذي حشر أذيال دشداشته ومصباحه اليدوي في حزامه ، كاشفا عن سرواله الداخلي وفخذيه الدقيقين الأسفعين . جعلنا ندنو ، حيث صار بإمكاني رؤية هالات الآكام تملأ كل ما يقع تحت بصري على امتداد الأفق . حين غادرنا المنخفض إلى نشز أطل فجأة على الفجر ، لاح النهر مثل طوق من الفضة يعرض أمام عري خلاسية مبتسمة ، وفي المدى العميق حتى مساره الضيق ميزت مستويين من النباتات . كان الأول كثيفا ملتفا ، ما لبثنا أن ولجنا أحد دروبه . فقال الغجري : إنه طريق النسوة اللائي يحضرن الماء كل يوم وقد أنعم الله على القرية بهذه الغابة من الغرب ، لأنها وفرت الأخشاب لبناء بيوتهم والحطب لمواقدهم ، لكنها التهمت نصف حقولهم على مدى أربعة عقود ، ولا بد أن الثعالب وبنات آوى ، باتت تتلصص على خطواتنا وراء الجذوع ، هل رأيت واحدا منها ؟ أجبت : أظنني شاهدت بعضها على الطبيعة . قال : إنها تباغت أقنان الدجاج , تسرق المؤن ، وتعبث بملابس الأطفال المنشورة على الأغصان . وأخذ الصياد القديم في داخلي يستهجن البيجاما التي أرتديها الآن . فانحنيت وجعلت أرخي طوقي الجوربين المطاطيين وأطوي طرفي السروال حاشرا إياهما لصق ربلتي ساقي ، ثم أعدت الجوربين فوقهما .
من زاوية صغيرة في ذهن الغجري ، بحجم رأس دبوس ، دأبت على إضاءة نصف قرن من حياة التشرد قال : الآن بدأت تتلمس طريقك يا دكتور . اعتبرت ذلك نصرا أتقلد شارته في جلجلة مهرجان وبريق أوسمة ، وصداح مزامير . ثم سد طريقي بجسده فتوقفت مرغما أصغي إلى همسه الراعش البطيء : أربض في مكانك ؟ ثم أرخى نابض البندقية ، فانكفأ حيزومها , وألقم حجرة النار إطلاقة . أعاد وضع الماسورة وسمعت صليل فولاذ يقرع بعضه بعضا وأنا أقرفص إلى جانبه .
ثمة زوج من بنات آوى يتهارشان على حافة جرف . ينفتح على المستوى الآخر في الفضاء المعبد بالأدغال القصيرة حتى النهر ، بدا أكثر سعة وبريقا . كانا يثيران غبرة صغيرة ويختفيان في أغلالها . ثم ما يلبث جسدهما يعاودان الظهور ؛ الذكر يمسك بعنق الأنثى جارا إياها إلى حرائق رغبته . لعن الغجري حظه الذي يضع الحب دائما في طريقه . فأخفيت ضحكة شائخة انكفأت مدغدغة أسفل بطني ثم مد يده فخفض ماسورة البندقية ، التي لم تكن موجهة ـ في الحقيقة ـ إلى المشهد . هتف قائلا : محال . فأنا لست ممن يطلقون النار على الحب ! لكن حافة الجرف هوت تحت وطأة شدة الغرائز الثائرة ، فانطلق الغجري مادا نظره إلى أسفل ، داعيا إياي للحاق به فرأيت العاشقين ، وهما يتدحرجان ثم ينفصلان بعد أن تعرفا على الشبحين الفضوليين فوقهما .
تعثرت زوجته ، وهما يرافقان فؤاد العطار واثنين من أقارب الأستاذ باقر الأميري الشبان في أول زيارة لهما لقرية الأستاذ الجنوبية المستلقية على حافة الهور ، مثل عنقود منفرط . لم يشاهد الدكتور خليل حركة احتضان فؤاد لها قبل تعثرها وسقوطها على الأرض ، لكنه أحس بذلك , لأنها لم تنبس بكلمة شكوى واحدة بعد أن سكن لـُهاثـُها . ولم توافق على  العودة حين طلب منها ذلك مؤكدا انه سيعتذر للأستاذ ، ربما لأن الصيد ومباذله يقعان خارج اهتماماتهما البيتية المهيمنة ، التي جاءا بها من المنزل عند تلبية دعوته إلا أن فؤاداًً أجاب نيابة عنها أن كل شيء سيكون على ما يرام بعد قليل ، بيد أنه لم يفكر بالعودة منفردا وأن أي قلق لم يساوره تلك اللحظة . لقد كان يفتقر إلى المشاهدة وأن أشد ما كان يخشاه هو أن يجد نفسه يوما محبوسا في أغلال عنكبوت ما .
مشى خلف الآخرين يتعثر بأحجار الحقول المحروثة ، من دون أن يجد من يتلقف جسده . واختص واحد من المرافقين المسلحين بمصاحبته فيما ابتعد الآخرون متقدمين بمسافة شاسعة وعند العودة جلسوا جميعا على الأرض بانتظار العشاء . كان الأستاذ يرتدي دشداشة صوف داكنة . قال إنه ارتداها أول مرة منذ أربعين عاما وأنه يحتفظ بها في هذا المكان دائما ، وأنها قطعت معه رحلة العمر قاذفة إياه إلى الشيخوخة بقفزات كثيرة متنوعة الأشكال ، منذ سن الشباب ، وما كانت ستتغير لولا أن الجسد ينتهي دائما إلى خذلان ملابسه .
لم أر الغجري وهو يقفز حافة الجرف ويتوارى ، وراء عاصفة مروقه ، بيد أنني صحوت بعد قليل على أزيز الصمت وقد أحدثه خلو المكان منه ، وعلى طيف شبح أبيض لحيوان صغير الجرم يحاول اللحاق بجسده المبتعد ، سمعت صوت الغجري وهو ينادي صارخا : وأخيرا هذا أنت أيها الطرفاوي المسكين ! خيل لي أن الغبرة المتخلفة عن أقدام الغجري بعد أن هوى من الجرف ملاحقا الطيف الأبيض ، قد تجمدت أمام ناظري . خفقت جوانحي لدوي الاسم الذي أطلقه الغجري على طيف طريدته ناسيا أنني كنت على حافة الجرف , فهويت متدحرجا على فوق ألواح الغضار الجاف الناتئ الأطراف . عبثا حاولت التمسك بالأغصان القريبة وأنا أحاول النهوض متحسسا ركبتي . وبينما حاولت اللحاق بالغجري متسقطاً أصداء لهاثه بين الشجيرات ، جعلت أدور في المكان المتاخم لحافة الجرف من دون التوغل في عمق الغابة . وكنت اضطر إلى التوقف لمراجعة مخاوفي والتفكير بخطواته اللاحقة ثم أيقظني صوت إطلاقة دوّى في وقار الفجر ، فذعرت الأغصان ، سكبت نداها وهي تختض فرقاً واستيقظت الحيوانات والحشرات هائمة على أوجهها . لابد أن خنفساءً عروسا أضاعت قرطها ، في حين أنسى الرعب سحلية فلم تصطحب أحد أبنائها الصغار ، والصدى في الجرف الصخري عند الجهة الأخرى خلف النهر ، وفي اللحظة التي كنت أفكر بتسيدي في الوضع فوق الطبيعي الذي اجترحه صاحبي كانت خطواتي الأولى ، ترسم نفسها فوق الرمال البراقة .
أشرفت على المستوى الآخر من الأعشاب . هاهو الفجر ينثر بسمته الشقراء على أطراف الشجيرات المزدحمة . ثمة منخفض يحاول أحد أطرافه التسلق حتى هامة النهر ، فلا يكاد يبين له شاطئ وراء صدمة الرؤية الذاهلة ، أوشكت على تذكر شيء ما وأنا أقتحم مخاضة ناعمة من الأغصان الدقيقة ، التي تبلغ خاصرتي ، وشممت رائحة ذكية أسكرت دمي ، لعلني شممت هذه الرائحة حين مرَّ أحد الفتية بمقشة أعواد الطرفاء الطرية . ودرت ببصري فلم أر أول الأمر غير هالة الغياب الملح لشبح الغجري ، وهو يتوارى مبتعدا ، غير أنني ما عتمت أن استوقفت أمام الغابة الصغيرة ، ترف في خاطري أجنحة عنقاء ، تحاول متهالكة الهبوط على نشز ما . ورأيت الوهدة البنية المقعرة ، مثل إناء مملوءاً بالحناء متلمسا بأناملي أطراف الغصون ، بأوراقها الداكنة الكثيفة . اعتصرت قبضة منها مالئا راحتي بخريطها الندي المدغدغ ، فشممت عميقا قبل أن أرفع قبضتي إلى أنفي ، وما دريت كيف برقت صورة أبي في مخيلتي تلك اللحظة . عبثا أفلحت في استحضار أصداء سيوف تتقارع ضباها ، وصهيل خيول ولهاث متحاربين .
صاح الغجري : أين أنت يا رجل ؟
لمحته ينزلق من حافة عالية بين الأشجار . تمسك بأحد الأغصان ، واتخذه أرجوحة ثم قفز حوله راقصا قبل أن يفلته منطلقاً باتجاهي محتفظا بخطواته الراقصة ، وهو ما يزال يشمر أذياله ويحمل بندقيته ، فيما يعلق في يده اليمنى أرنبا أبيض ذبيحاً . رفعه في وجهي ، فرأيت دماء نحره المتجمدة قال وهو يفلت الصيد ، ويضع كفه على كتفي : ـ هذا الطرفاوي السمين سوف يكون زاد فطورنا !
ولم أعد أرى غير رقصته ، وقد بدأت تضيء ما توارى من ذاكرتي ، حين استرخت قبضتي الممتلئة بأوراق الطرفاء وانسكبت تحت خطواتي الأخيرة .